
التربية ما بعد الجائحة: دروس مستفادة وتحوّلات في فلسفة التعليم
التربية ما بعد الجائحة: دروس مستفادة وتحوّلات في فلسفة التعليم
د. حنان حلبي
شهد العالم في السنوات الأخيرة تحوّلا جذريا في جميع جوانب الحياة، غير أن جائحة كوفيد-19 كانت بمثابة لحظة فاصلة أعادت ترتيب الأولويات وكشفت عن هشاشة العديد من الأنظمة، وعلى رأسها النظام التعليمي. فقد أجبرت المدارس والجامعات على الإغلاق، وانقطع ملايين المتعلمين عن صفوفهم، واضطر الجميع، بين ليلة وضحاها، إلى الانتقال نحو التعليم عن بعد. لم يكن هذا الانتقال سهلا أو متكافئا، بل أظهر تفاوتا كبيرا في الإمكانيات، وجعلنا نعيد النظر في جوهر العملية التعليمية برمّتها.
الجائحة وتفاقم الفجوة الرقمية والعدالة التعليمية
لقد كشفت الجائحة عن فجوة رقمية عميقة بين المتعلمين، ليس فقط على مستوى الدول، بل داخل الدولة الواحدة، بل وحتى بين المدرسة والقرية والمدينة. ففي حين تمكّن بعض الطلاب من الوصول إلى الإنترنت واستعمال الأجهزة الذكية، حرم آخرون من الحد الأدنى من التعلّم. وظهرت تساؤلات جوهرية حول مفهوم “العدالة التعليمية” في عالم يدّعي التقدم والانفتاح. وهذا الخلل لم يكن وليد اللحظة، بل كان موجودا منذ عقود، إلا أن الجائحة سلّطت عليه الضوء وكأنها عدسة مكبّرة، واضعة الأنظمة التعليمية أمام اختبار حقيقي.
انهيار النموذج التقليدي وحتمية التغيير
في موازاة هذا، بات من الواضح أن النموذج التقليدي في التعليم، القائم على التلقين والحفظ والحضور المادي، لم يعد صالحا لمواجهة الأزمات. فالمدرسة التي كانت تعتبر فضاء مغلقا، بحدود زمنية ومكانية ضيقة، لم تتمكن من الصمود أمام تحديات الواقع الجديد. أصبح من الضروري إعادة النظر في فلسفة التعليم، والانتقال من التركيز على المحتوى إلى تنمية المهارات، ومن دور المعلم كمصدر وحيد للمعلومة إلى دوره كمرشد وميسّر، ومن المتعلم المتلقي إلى المتعلم النشيط القادر على البحث والتفكير وحل المشكلات.
فلسفة الممارسة التعليمية: كيف تؤثر على استخدام تقنيات التعلم الإلكتروني؟
نحو التعليم المدمج والمرونة في التعلّم
الجائحة، وإن كانت مؤلمة، فتحت المجال أمام تصوّر جديد للتعليم قائم على المرونة، والانفتاح، والتعلّم الذاتي. ولعل أبرز ما خرجت به المؤسسات التعليمية من هذه التجربة هو وعيها بقيمة التعليم المدمج، الذي يجمع بين التعليم الحضوري والتعليم الرقمي، ويوفّر بيئة تعلم غنية ومتعددة المصادر. التعليم المدمج ليس بديلا عن التعليم التقليدي، ولا هو مجرد استخدام لمنصات إلكترونية، بل هو إعادة تصميم للتجربة التعليمية بما يضمن التفاعل، والاستمرارية، والتكيّف مع حاجات المتعلمين المختلفة.
التقييم الشامل ودور التكنولوجيا
في خضم هذه التحولات، برزت الحاجة إلى تقويم شامل لا يركّز فقط على نتائج الامتحانات، بل يأخذ بعين الاعتبار مجمل أداء الطالب، بما في ذلك المشاريع، والعروض، والتقييم الذاتي، والعمل الجماعي. كما برزت أدوات التكنولوجيا كمساعد قوي في جمع البيانات وتحليلها، مما ساعد على تتبّع تطوّر أداء المتعلمين، وتقديم الدعم الفردي المناسب لكل حالة. لكن التقييم لم يعد فقط مسألة أكاديمية، بل أصبح يرتبط أيضا بالجوانب النفسية والاجتماعية للمتعلمين.
أهمية الدعم النفسي والرفاهية العاطفية
إحدى أكبر التحديات التي فرضتها الجائحة هي الجانب النفسي. فالعزلة، والخوف، وفقدان الروتين المدرسي، أثّرت بشكل كبير على الصحة النفسية للطلاب، لا سيّما الأطفال والمراهقين. ظهرت حالات القلق والاكتئاب، وتراجع التفاعل الاجتماعي، مما دفع العديد من المؤسسات إلى إدراك أهمية تضمين الدعم النفسي ضمن خدماتها الأساسية. لم يعد كافيا أن ندرّس الطالب الرياضيات والعلوم، بل بات من الضروري أن نهتم بعواطفه، وانفعالاته، ورفاهيته النفسية، لأن التعلم لا يمكن أن يتم في بيئة مضطربة أو مهددة.
الواقع العربي ولبنان: تحديات ومبادرات
وفي السياق العربي، عكست الجائحة واقعا مركّبا. فقد واجه لبنان أزمة مركّبة، إذ تزامنت الجائحة مع انهيار اقتصادي، وأزمات اجتماعية، وبنية تحتية تعليمية هشّة. في كثير من المدارس، لا سيما الرسمية، غابت الإمكانيات التقنية، واضطر المعلمون إلى استخدام وسائل بدائية لمتابعة طلابهم، أو اجتهدوا بشكل فردي لخلق حلول بديلة. ومع ذلك، ظهرت مبادرات محلية وشبابية تحاول سد الثغرات، ما يعكس أن الأزمة أيضا ولّدت نوعا من الوعي الجماعي بأهمية التعليم الرقمي، وضرورة تطوير المناهج، والبنية التحتية، وإعداد المعلمين لعصر مختلف.
إعادة بناء المنظومة التربوية: رؤية مستقبلية
إن التربية بعد الجائحة ليست مجرد استئناف لما كان، بل فرصة لإعادة بناء المنظومة التربوية وفق رؤية جديدة، تجعل من التعلّم مشروعا إنسانيا متكاملا، يتداخل فيه البعد المعرفي، والوجداني، والاجتماعي. مستقبل التعليم يجب أن يكون مرنا، متنوعا، وقائما على مهارات الحياة، لا على تراكم المعلومات. ويجب أن يوفّر أدوات للتكيف مع المجهول، وفضاءات للتعبير، والنمو، والتعاون.
لحظة مفصلية وتغيير شامل
إن اللحظة التربوية التي نعيشها اليوم هي لحظة مفصلية، لا ينبغي أن نعود بعدها إلى ما كنا عليه من أنماط تعليمية تقليدية ومغلقة. علينا أن نعيد النظر في كل مفصل من مفاصل العملية التعليمية: من المناهج، إلى طرق التدريس، إلى أدوات التقييم، إلى العلاقة بين المدرسة والمجتمع. ولعل أبرز ما نحتاجه هو إعادة تعريف المدرسة كمؤسسة إنسانية شاملة، لا تقتصر مهمتها على التعليم فقط، بل تتعداه إلى بناء الشخصية، وغرس القيم، وتعزيز الانتماء، ودعم التعلّم مدى الحياة.
متطلبات التحول: إرادة واستثمارات وشراكات
ولكي يتحقق هذا التحوّل، يجب أن تتوفر إرادة سياسية واضحة، واستراتيجيات وطنية قائمة على الأدلة، واستثمارات حقيقية في المعلمين، والتكنولوجيا، والبنى التحتية. لا يمكن لأي نظام تعليمي أن ينهض دون الاهتمام بالمعلم كركيزة أساسية، ودون إشراك المجتمع المحلي، ودون الانفتاح على التجارب العالمية والاستفادة منها.
التعليم ما بعد الجائحة ليس مجرد تحدٍ طارئ، بل هو مشروع طويل الأمد يتطلب تعاونا بين الوزارات، والجامعات، والمجتمع المدني، والقطاع الخاص. إنه فرصة ذهبية لبناء نموذج تعليمي عربي جديد، يراعي الخصوصيات الثقافية والاجتماعية، لكنه في الوقت عينه قادر على مواكبة المتغيرات العالمية، وتهيئة أجيال قادرة على مواجهة المستقبل بثقة وكفاءة.
التعليم المنشود: التحرير والتمكين والإلهام
في النهاية، إن التعليم الذي نحتاجه اليوم هو تعليم يحرّر لا يقيّد، يمكّن لا يهمّش، يلهم لا يلقّن. تعليم يربط بين المعرفة والحياة، بين التقنية والقيم، بين المدرسة والمجتمع. تعليم يزرع في المتعلم حبّ الاكتشاف، ويدفعه ليكون فاعلا في عالم يتغيّر كل يوم. فهل نغتنم الفرصة ونعيد بناء تعليم يليق بإنسان هذا العصر؟