
صناعة الحروب في عصر الذكاء الاصطناعي
أولًا: تطور مفهوم الحرب عبر العصور
شكَّلت الحروب والصراعات والنزاعات، على مرّ العصور، منعطفات رئيسية في حياة الدول على كافة الأصعدة الأمنية والسياسية، الاقتصادية والاجتماعية، الديموغرافية والثقافية… وذلك من خلال الأضرار والآثار التي تخلفها.
خلال المراحل التاريخية التي مرت بها الشعوب في صراعاتها، تطورت أجيال الحروب مما أدى إلى تحديث كل منظومة الحرب (من تدريب الأفراد، إلى نوعية السلاح المستخدم، إلى النظريات والخطط العسكرية المتبعة فيها….)، فكانت حروب الجيل الأول حتى الجيل السادس، وأختص كل جيل من الحروب بنوع معين من التكتيكات والعمليات ونوعية الأسلحة والمعدات المستخدمة فيها.
ومع الثورة التكنولوجية الرابعة، ظهرت تطورات سريعة في مجال الحوسبة وتكنولوجيا المعلومات، مما أفضى إلى بروز ابتكارات جديدة انعكست تغييرات بعيدة المدى في جميع مجالات الحياة، ولعل أبرزها في قطاعي الأمن والدفاع، بحيث تحوّل الفضاء الإلكتروني إلى مجال جديد للتفاعلات الدولية في القرن الحادي والعشرين، مما جعله ساحة توظّف في الاستخدامات المدنية والعسكرية على حد سواء.
لقد أصبح باستطاعة التكنولوجيا السيبرانية المستخدمة خلال الحرب، التأثير في أنماط ومجريات هذه الحرب، ومن هنا أصبحت الدولة التي تمتلك هذه التكنولوجيا تحظى بالتفوق في ميدان المعركة من خلال استخبارات نوعية وشاملة، وقدرة هجومية دقيقة وخاطفة، وقدرة على الدفاع عن بنيتها التحتية الحيوية، إلى جانب قدرات عالية على السيطرة والتحكم وما يتبع ذلك.
ثانيًا: الذكاء الاصطناعي في ميدان المعركة
إن التطورات التكنولوجية سمحت بتصنيع الروبوت، حيث تعدّ الروبوتات القتالية من أبرز ملامح التطوّر المتوقّع في الحروب المستقبلية، التي ستعتمد بشكل كبير على الأنظمة المسيّرة المتحكم بها عن بعد وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، سواء كان ذلك في البحر أو الجو، أو حتى في الحروب البرية.
تسعى معظم القوى الدولية على تطوير روبوتاتها، فالصين تعمل على تطوير قدراتها في مجال الذكاء الصناعي، وباتت من الدول الرائدة فيه، وهناك برامج مرتبطة بالذكاء الاصطناعي والصناعات العسكرية.
حيث شكل الذكاء الاصطناعي ملامح العديد من الصناعات حول العالم، ومن ضمنها الصناعة العسكرية، فقد دخلت تقنيات الذكاء الاصطناعي إلى ميدان الحرب، لتعيد تشكيل مفاهيم الصراع، التكتيك، والقوة، مما أدى إلى ظهور ما يعرف بـ”الحروب الذكية”.
فلم تعد الحروب تعتمد فقط على الجنود والأسلحة التقليدية، بل باتت تعتمد على الخوارزميات، والطائرات المسيّرة، وتحليل البيانات الضخمة. اليوم، يمكن للطائرات بدون طيار (الدرونز) الموجهة بالذكاء الاصطناعي أن تنفذ عمليات دقيقة دون تدخل بشري مباشر. كما تستخدم الجيوش برامج تعتمد على تعلم الآلة لتحليل أنماط العدو والتنبؤ بتحركاته.
إن دور الذكاء الاصطناعي لا يقتصر على الحروب المادية، بل يمتد إلى الحروب السيبرانية والحملات الدعائية الرقمية، حيث تُستخدم تقنيات التزييف العميق (Deepfake) والتلاعب بالرأي العام كسلاح في الحروب النفسية والسياسية.
لقد ساهم الابتكار في تعزيز فاعلية القوات المسلحة، ولعب دوراً حاسماً في سير المعارك، ولكن الخطر الأكبر الذي يهدد البشرية هو مسارعة الدول الكبرى إلى استخدام الذكاء الاصطناعي بشكل واسع للأغراض العسكرية، وهو ما تفعله خصوصاً الولايات المتحدة وروسيا والصين، إذ خصصت ميزانيات ضخمة لهذا الغرض، كما أنها ترفض فرض حظر على هذه الأسلحة أو تقييد استخدامها.
من هنا برزت المخاوف الأمنية القائمة على الذكاء الاصطناعي، ومن الأمثلة على سبيل المثال لا الحصر: عمليات الاختراق الأمني، التجسس، الابتزاز، الانتحار، ارتكاب الجرائم، تجارة الأعضاء البشرية، تجارة المخدرات، تبييض الأموال….
ثالثًا: مخاطر مستقبلية وتحديات أخلاقية
فوفق بعض الخبراء، أنه وبحلول العام 2075، سـتصل آلات مزودة بقدرات خاصة إلى مستويات ذكاء تفوق مستوى الإنسان، تمكنها من اتخاذ قرارات بشكل ذاتي، من دون العودة إلى أي مرجعية بشرية.
حيث حذر البروفيسور جيمس داور من كلية ماكليستر الأمريكية، من أن سباق التسلح القائم على صناعة «روبوتات قاتلة» يمكن أن يقضي على البشرية إذا تُرك من دون رادع، كما أن الأخطاء الخوارزمية لا مفر منها، وقد تؤدي إلى القضاء على مدن بأكملها، من خلال:
1- تحويل الهجمات الإرهابية إلى وسائل إلكترونية ذكية بلا وجود فعلي للبشر، من خلال استخدام الطائرات بدون طيار أو المركبات ذاتية القيادة كأسلحة.
2- استخدام أسراب من الروبوتات، والتي تتكون من العديد من الروبوتات الذاتية التي تحاول تحقيق الهدف نفسه.
3- الهجمات عن بُعد، حيث إن الروبوتات الذاتية ليست بحاجة للتحكم بها من أي مسافة مهما كانت بعيدة.
وبالتالي، على الرغم مما تقدمه تقنيات الذكاء الاصطناعي من مزايا في الحروب، فإن المخاوف منها تطرح قضايا أخلاقية حساسة:
• غياب المسؤولية البشرية: من يُحاسب عندما ترتكب آلة ذكية مجزرة؟
• عدم القدرة على التمييز الأخلاقي: لا تملك الخوارزميات فهماً للسياق الإنساني أو القانون الدولي الإنساني.
• سباق التسلح: يؤدي التنافس في تطوير أسلحة ذكية إلى زعزعة الاستقرار العالمي وزيادة احتمال نشوب حروب.
يتضح لنا مما تقدم، بأن استعمال الأسلحة الموجهة والأسلحة الذكية أصبح أمرًا أساسيًا، بل ومحور الحروب الحديثة، بالإضافة إلى أنّ منظومة السيطرة والقيادة والاتصال قد اعتمدت كليًا على الاتصالات اللاسلكية وشبكة الإنترنت، ونتيجة لذلك التطور برزت مصطلحات جديدة ومنها “الحرب السيبرانية” و”الأمن السيبراني” و”الفضاء السيبراني”، وشكلت بعدًا أساسيًا في جميع أنواع الصراعات الحديثة، سواء منها البرية أو البحرية أم الجوية.
إن دخول الذكاء الاصطناعي في صناعة الحروب يمثل تطوراً تقنياً هائلاً، لكنه يحمل في طياته مخاطر كبيرة على الأمن والسلم العالميين. وبينما تسعى الدول الكبرى لتسخير هذه التكنولوجيا لصالح تفوقها العسكري، يبقى التحدي الحقيقي هو كيفية تقييد استخدامها بما يحفظ كرامة الإنسان ويمنع انزلاق العالم إلى فوضى لا يمكن السيطرة عليها.
إعداد: أ. د. نادين الكحيل (كاتبة وباحثة سياسية)